فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

الرزق بالفتح لغة الإعطاء لما ينتفع الحيوان به.
وقيل إنه يعم غيره كالنبات وبالكسر اسم منه ومصدر أيضًا على قول.
وقيل أصل الرزق الحظ ويستعمل بمعنى المرزوق المنتفع به وبمعنى الملك وبمعنى الشكر عند أزد.
واختلف المتكلمون في معناه شرعًا فالمعول عليه عند الأشاعرة ما ساقه الله تعالى إلى الحيوان فانتفع به سواء كان حلالًا أو حرامًا من المطعومات أو المشروبات أو الملبوسات أو غير ذلك والمشهور أنه اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان ليتغذى به ويلزم على الأول أن تكون العواري رزقًا لأنها مما ساقه الله تعالى للحيوان فانتفع به وفي جعلها رزقًا بعد بحسب العرف كما لا يخفى، ويلزم أيضًا أن يأكل شخص رزق غيره لأنه يجوز أن ينتفع به الآخر بالأكل إلا أن الآية توافقه إذ يجوز أن يكون انتفاع من جهة الانفاق على الغير بخلاف التعريف الثاني إذ ما يتغذى به لا يمكن إنفاقه إلا أن يقال إطلاق الرزق على المنفق مجاز لكونه بصدده والمعتزلة فسروه في المشهور تارة بما أعطاه الله تعالى عبده ومكنه من التصرف فيه وتارة بما أعطاه الله تعالى لقوامه وبقائه خاصة، وحيث إن الإضافة إلى الله تعالى معتبرة في معناه وأنه لا رازق إلا الله سبحانه وأن العبد يستحق الذم والعقاب على أكل الحرام وما يستند إلى الله تعالى عز وجل عندهم لا يكون قبيحًا ولا مرتكبه مستحقًا ذمًا وعقابًا قالوا إن الرزق هو الحلال، والحرام ليس برزق وإلى ذلك ذهب الجصاص منا في كتاب أحكام القرآن وعندنا الكل منه وبه وإليه {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} [النساء: 78] ولا حول ولا قوة إلا بالله وإلى الله تصير الأمور والذم والعقاب لسوء مباشرة الأسباب بالاختيار نعم الأدب من خير رأس مال المؤمن فلا ينبغي أن ينسب إليه سبحانه إلا الأفضل فالأفضل كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 0 8] وقال تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] فالحرام رزق في نفس الأمر لكنا نتأدب في نسبته إليه سبحانه والدليل على شمول الرزق له ما أخرجه ابن ماجه وأبو نعيم والديلمي من حديث صفوان بن أمية قال: جاء عمرو بن قرة فقال: يا رسول الله إن الله قد كتب عليَّ الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي في الغنى من غير فاحشة فقال صلى الله عليه وسلم: «إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله تعالى رزقًا حلالًا طيبًا فاخترت ما حرم الله تعالى عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله» وحمله على المشاكلة كالقول بأنه يحتمل قوله عليه الصلاة والسلام: «فاخترت» الخ كونه رزقًا لمن أحل له فيسقط الاستدلال لقيام الاحتمال خلاف الظاهر جدًا.
ومثل هذا الاحتمال إن قدح في الاستدلال لا يبقى وجه الأرض دليل والطعن في السند لا يقبل من غير مستند وهو مناط الثريا كما لا يخفى والاستدلال على هذا المطلب كما فعل البيضاوي وغيره بأنه لو لم يكن الحرام رزقًا لم يكن المتغذى به طول عمره مرزوقًا وليس كذلك لقوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6] ليس بشيء لأن للمعتزلة أن لا يخصوا الرزق بالغذاء بل يكتفوا بمطلق الانتفاع دون الانتفاع بالفعل بل التمكن فيه فلا يتم الدليل إلا إذا فرض أن ذلك الشخص لم ينتفع من وقت وفاته إلى وقت موته بشيء انتفاعًا محللًا لا رضعة من ثدي ولا شربة من ماء مباح ولا نظرة إلى محبوب ولا وصلة إلى مطلوب بل ولا تمكن من ذلك أصلًا والعادة تقضي بعدم وجوده ومادة النقض لابد من تحققها على أنه لو قدر وجوده لقالوا إن ذلك ليس محرمًا بالنبة إليه {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وأيضًا لهم أن يعترضوا بمن عاش يومًا مثلًا ثم مات قبل أن يتناول حلالًا ولا حرامًا وما يكون جوابنا لهم يكون جوابهم لنا على أن الآية لم تدل على أن الله تعالى يوصل جميع ما ينتفع به كل أحد إليه فإن الواقع خلافه بل دلت على أنه سبحانه وتعالى يسوق الرزق ويمكن من الانتفاع به فإذا حصل الإعراض من الحلال إلى الحرام لم يقدح في تحقق رازقيته جل وعلا، وأيضًا قد يقال: معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية فلا تدخل مادة النقض ليضر خروجها كما لا يدخل السمك في قولهم كل دابة تذبح بالسكين أي كل دابة تتصف بالمذبوحية فالاتصاف أن هذا لا يصلح دليلًا، والأحسن الاستدلال بالاجماع قبل ظهور المعتزلة على أن من أكل الحرام طول عمره مرزوق طول عمره ذلك الحرام والظواهر تشهد بانقسام الرزق إلى طيب وخبيث وهي تكفي في مثل هذه المسألة والأصل الذي بني عليه التخصيص قد تركه أهل السنة قاعًا صفصفا.
والانفاق الانفاد يقال أنفقت الشيء وأنفدته بمعنى والهمزة للتعدية وأصل المادة تدل على الخروج والذهاب ومنه نافق والنافقاء ونفق وإنما قدم سبحانه وتعالى المعمول اعتناء بما خول الله تعالى العبد أو لأنه مقدم على الانفاق في الخارج ولتناسب الفواصل والمراد بالرزق هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي ولا مدح أيضًا في إنفاق الحرام قيل ولا يرد قول الفقهاء إذا اجتمع عند أحد مال لا يعرف صاحبه ينبغي أن يتصدق به فإذا وجد صاحبه دفع قيمته أو مثله إليه فهذا الانفاق مما يثاب عليه لأنه لما فعله بإذن الشارع استحق المدح لأنه لما لم يعرف صاحبه كان له التصرف فيه وانتقل بالضمان إلى ملكه وتبدلت الحرمة إلى ثمنه على أنه قد وقع الخلاف فيما لو عمل الخير بمال مغصوب عرف صاحبه كما قال ابن القيم في بدائع الفوائد فذهب ابن عقيل إلى أنه لا ثواب للغاصب فيه لأنه آثم ولا لرب المال لأنه لا نية له ولا ثواب بدونها وإنما يأخذ من حسنات الغاصب بقدر ماله.
وقيل إنه نفع حصل بماله وتولد منه ومثله يثاب عليه كالولد الصالح يؤجر به وإن لم يقصده، ويفهم كلام البعض وهو من الغرابة بمكان أن الغاصب أيضًا يؤجر إذا صرفها بخير وإن تعد واقتص من حسناته بسبب أخذه لأنه لو فسق به عوقب مرتين مرة على الغصب ومرة على الفسق فإذا عمل به خيرًا ينبغي أن يثاب عليه {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره} [الزلزله: 7و8] ولا يرد على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صدقة من غلول» وقوله: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا» لأن مآل ما ذكر أن الثواب على نفس العدول من الصرف في المعصية إلى الصرف فيما هو طاعة في نفسه لا على نفس الصدقة مثلًا بالمال الحرام من حيث إنه حرام والفرق دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق. اهـ.

.قال الفخر:

أصل الإنفاق إخراج المال من اليد، ومنه نفق المبيع نفاقًا إذا كثر المشترون له، ونفقت الدابة إذا ماتت أي خرج روحها، ونافقاء الفأرة لأنها تخرج منها ومنه النفق في قوله تعالى: {أَن تَبْتَغِىَ نَفَقًا في الأرض} [الأنعام: 35]. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يُنْفِقُونَ} ينفقون: يخرجون.
والإنفاق: إخراج المال من اليد؛ ومنه نَفَق البيع: أي خرج من يد البائع إلى المشتري.
ونَفَقت الدّابةُ: خرجت روحها؛ ومنه النافِقاء لجُحْر اليربوع الذي يخرج منه إذا أخذ من جهة أخرى.
ومنه المنافق؛ لأنه يخرج من الإيمان أو يخرج الإيمان من قلبه.
ونَيْفَق السراويل معروفة وهو مخرج الرِّجل منها.
ونَفِق الزاد: فني وأنفقه صاحبه.
وأنفق القوم: فنى زادهم؛ ومنه قوله تعالى: {إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق} [الإسراء: 100]. اهـ.

.قال الفخر:

في قوله: {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} فوائد:
أحدها: أدخل من التبعيضية صيانة لهم، وكفى عن: الإسراف والتبذير المنهي عنه.
وثانيها: قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم، كأنه قال ويخصون بعض المال بالتصدق به.
وثالثها: يدخل في الإنفاق المذكور في الآية، الإنفاق الواجب، والإنفاق المندوب، والإنفاق الواجب أقسام: أحدها: الزكاة وهي قوله في آية الكنز: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} [التوبة: 34].
وثانيها: الإنفاق على النفس وعلى من تجب عليه نفقته.
وثالثها: الإنفاق في الجهاد.
وأما الإنفاق المندوب فهو أيضًا إنفاق لقوله: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت} وأراد به الصدقة لقوله بعده: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصالحين} [المنافقون: 10] فكل هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح. اهـ.

.قال القرطبي:

اختلف العلماء في المراد بالنفقة هاهنا؛ فقيل: الزكاة المفروضة روي عن ابن عباس لمقارنتها الصلاة.
وقيل: نفقة الرجل على أهله روي عن ابن مسعود لأن ذلك أفضل النفقة.
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دينارٌ أنفقَته في سبيل الله ودينار أنفقته في رَقَبة ودينار تَصدّقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك» وروي عن ثَوْبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضلُ دينارٍ ينفقه الرجل دينارٌ ينفقه على عياله ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله عز وجل ودينارٌ ينفقه على أصحابه في سبيل الله» قال أبو قِلابة: وبدأ بالعيال ثم قال أبو قِلابة: وأيُّ رجلٍ أعظم أجرًا من رجل ينفق على عيال صغار يعفّهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم.
وقيل: المراد صدقة التطوّع روي عن الضحاك نظرًا إلى أن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة؛ فإذا جاءت بلفظ غير الزكاة احتملت الفرض والتطوّع، فإذا جاءت بلفظ الإنفاق لم تكن إلا التطوّع.
قال الضحاك: كانت النفقة قربانًا يتقرّبون بها إلى الله جل وعز على قدر جِدَتهم حتى نزلت فرائض الصدقات والناسخات في براءة.
وقيل: إنه الحقوق الواجبة العارضة في الأموال ما عدا الزكاة؛ لأن الله تعالى لما قرنه بالصلاة كان فرضًا، ولما عدل عن لفظها كان فرضا سواها.
وقيل: هو عام وهو الصحيح، لأنه خرج مخرج المدح في الإنفاق مما رزقوا، وذلك لا يكون إلا من الحلال، أي يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وغيرها مما يعنّ في بعض الأحوال مع ما ندبهم إليه.
وقيل: الإيمان بالغيب حظ القلب.
وإقام الصلاة حظ البدن.
ومما رزقناهم ينفقون حظ المال، وهذا ظاهر.
وقال بعض المتقدّمين في تأويل قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي مما علّمناهم يعلّمون؛ حكاه أبو نصر عبد الرحيم ابن عبد الكريم القُشيري. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} صلة ثالثة في وصف المتقين مما يحقق معنى التقوى وصدق الإيمان من بذل عزيز على النفس في مرضاة الله؛ لأن الإيمان لما كان مقره القلب ومترجمه اللسان كان محتاجًا إلى دلائل صدق صاحبه وهي عظائم الأعمال، من ذلك التزام آثاره في الغيبة الدالة عليه: {الذين يؤمنون بالغيب} ومن ذلك ملازمة فعل الصلوات لأنها دليل على تذكر المؤمن من آمن به.
ومن ذلك السخاء ببذل المال للفقراء امتثالًا لأمر الله بذلك.
والرزق ما يناله الإنسان من موجودات هذا العالم التي يسد بها ضروراته وحاجاته وَينال بها مُلائَمه، فيطلق على كل ما يحصل به سد الحاجة في الحياة من الأطعمة والأنعام والحيوان والشجر المثمر والثياب وما يقتني به ذلك من النقدين، قال تعالى: {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} [النساء: 8] أي مما تركه الميت وقال: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا} [الرعد: 26] وقال في قصة قارون: {وآتيناه من الكنوز إلى قوله ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} [القصص: 76 82] مرادًا بالرزق كنوزُ قارون وقال: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبَغوا في الأرض} [الشورى: 27] واشْهَرُ استعماله بحسب ما رأيتُ من كلام العرب وموارد القرآن أنه ما يحصل من ذلك للإنسان، وأما إطلاقه على ما يتناوله الحيوان من المرعى والماء فهو على المجاز، كما في قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [هود: 6] وقوله: {وجد عندها رزقًا} [آل عمران: 37] وقوله: {لا يأتيكما طعام ترزقانه} [يوسف: 37].
والرزق شرعًا عند أهل السنة كالرزق لغة إذ الأصل عدمُ النقل إلا لدليل، فيصدق اسم الرزق على الحلال والحرام لأن صفة الحل والحرمة غير مُلتفت إليها هنا فبيان الحلال من الحرام له مواقع أخرى ولا يقبل الله إلا طيبًا وذلك يختلف باختلاف أحوال التشريع مثل الخمر والتجارة فيها قبل تحريمها، بل المقصود أنهم ينفقون مما في أيديهم.
وخالفت المعتزلة في ذلك في جملة فروع مسألة خلْق المفاسد والشرور وتقديرهما، ومسألة الرزق من المسائل التي جرت فيها المناظرة بين الأشاعرة والمعتزلة كمسألة الآجال، ومسألة السعر، وتمسك المعتزلة في مسألة الرزق بأدلة لا تنتج المطلوب.
والإنفاق إعطاء الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس والأهل والعيال ومن يُرغب في صلته أو التقرب لله بالنفع له من طعام أو لباس.
وأريد به هنا بثه في نفع الفقراء وأهل الحاجة وتسديد نوائب المسلمين بقرينة المدح واقترانه بالإيمان والصلاة فلا شك أنه هنا خصلة من خصال الإيمان الكامل، وما هي إلا الإنفاق في سبيل الخير والمصالح العامة إذ لا يمدح أحد بإنفاقه على نفسه وعياله إذ ذلك مما تدعو إليه الجبلة فلا يعتني الدين بالتحريض عليه؛ فمن الإنفاق ما هو واجب وهو حق على صاحب الرزق، للقرابة وللمحاويج من الأمة ونوائب الأمة كتجهيز الجيوش والزكاة، وبعضه محدد وبعضه تفرضه المصلحة الشرعية الضرورية أو الحاجية وذلك مفصل في تضاعيف الأحكام الشرعية في كتب الفقه، ومن الإنفاق تطوع وهو ما فيه نفع من دَعَا الدينُ إلى نفعه.
وفي إسناده فعل رزقنا إلى ضمير الله تعالى وجعْل مفعوله ضميرَ {الذين يؤمنون} تنبيه على أن ما يصير الرزق بسببه رزقًا لصاحبه هو حق خاص له خَوَّله اللَّهُ إياه بحكم الشريعة على حسب الأسباب والوسائل التي يتقرر بها ملك الناس للأموال والأرزاق، وهو الوسائل المعتبرة في الشريعة التي اقتضت استحقاق أصحابها واستئثارهم بها بسبب الجُهد مما عمله المرء بقوة بدنه التي لا مريَة في أنها حقه مثلُ انتزاع الماء واحتطاب الحطب والصيد وجنْي الثمار والتقاطِ ما لا مِلْك لأحدٍ عليه ولا هو كائنٌ في ملك أحد، ومثلُ خدمتِه بقوته من حَمل ثقل ومَشي لقضاء شئون من يؤجره وانحباس للحراسة، أو كان مما يصنع أشياء من مواد يَملكها وله حق الانتفاع بها كالخَبْز والنسج والتَّجْر وتطريق الحديد وتركيب الأطعمة وتصوير الآنية من طين الفخار، أو كان مما أنتجه مثل الغرس والزرع والتوليد، أو مما ابتكره بعقله مثل التعليم والاختراع والتأليف والطب والمحاماة والقضاء ونحو ذلك من الوظائف والأعمال التي لنفع العامة أو الخاصة، أو مما أعطاه إياه مالِكُ رزققٍ مِن هبات وهدايا ووصايا، أو أذِن بالتصرف كإحياءِ الموات، أو كان مما ناله بالتعارض كالبيوع والإجارات والأكرية والشركات والمغارسة، أو مما صار إليه من مال انعدم صاحبه بكونِه أحقَّ الناس به كالإرث.
وتملك اللُّقطة بعد التعريف المشروط، وحق الخمس في الركاز.
فهذه وأمثالها مما شمله قول الله تعالى: {مما رزقناهم}.
وليس لأحد ولا لمجموع الناس حق فيما جعله الله رزق الواحد منهم لأنه لا حق لأحد في مال لم يسْع لاكتسابه بوسائله وقد جاءت هند بنت عقبة زوج أبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبا سفيان رجل مِسِّيكٌ فهل أنفق من الذي له عيالَنا فقال لها: «لاَ إلا بالمعروف» أي إلا ما هو معروف أنه تتصرف فيه الزوجة مما في بيتها مما وضعه الزوج في بيته لذلك دون مسارقة ولا خلسة.
وتقديم المجرور المعموللِ على عامله وهو {ينفقون} لمجرد الاهتمام بالرزق في عرف الناس فيكون في التقديم إيذان بأنهم ينفقون مع ما للرزق من المعزَّة على النفس كقوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه} [الإنسان: 8]، مع رعي فواصل الآيات على حَرف النون، وفي الإتيان بِمنْ التي هي للتبعيض إيماء إلى كون الإنفاق المطلوب شرعًا هو إنفاق بعض المال لأن الشريعة لم تكلف الناس حرجًا، وهذا البعض يقل ويتوفر بحسب أحوال المنفقين.
فالواجب منه ما قَدرت الشريعة نُصُبَه ومقاديره من الزكاة وإنفاققِ الأزواج والأبناءِ والعبيدِ، وما زاد على الواجب لا ينضبط تحديده وما زاد فهو خير، ولم يشرع الإسلامُ وجوب تسليم المسلم ما ارتزقه واكتسبه إلى يد غيره.
وإنما اختير ذكر هذه الصفات لهم دون غيرها لأنها أول ما شرع من الإسلام فكانت شعارَ المسلمين وهي الإيمان الكامل وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإنهما أقدم المشروعات وهما أختان في كثير من آيات القرآن، ولأن هذه الصفات هي دلائل إخلاص الإيمان لأن الإيمان في حال الغيبة عن المؤمنين وحال خُوَيصَّة النفس أدل على اليقين والإخلاص حين ينتفي الخوف والطمع إن كان المراد ما غاب.
أو لأن الإيمان بما لا يصل إليه الحس أدل دليل على قوة اليقين حتى إِنه يَتبقَى من الشارع ما لا قبل للرأي فيه وشأن النفوس أن تنبو عن الإيمان به لأنها تميل إلى المحسوس فالإيمان به على علاته دليل قوة اليقين بالمخبر وهو الرسول إن كان المراد من الغيب ما قابل الشهادة، ولأن الصلاة كلفة بدنية في أوقات لا يتذكرها مقيمها أي مُحسن أدائها إلا الذي امتلأ قلبه بذكر الله تعالى على ما فيها من الخضوع وإظهار العبودية، ولأن الزكاة أداء المال وقد عُلم شح النفوس قال تعالى: {وإذا مسه الخير منوعًا} [المعارج: 21] ولأن المؤمنين بعد الشرك كانوا محرومين منها في حال الشرك بخلاف أهل الكتاب فكان لذكرها تذكير بنعمة الإسلام. اهـ.